في ذلك البيت الصغير عاش الأب والأم وأولادهما ...تظلهم السعادة ويغمرهم الحب والحنان
...فالأب يحنو على أبناءه والأم تعطف عليهم ..((وهذان في الدنيا هم الرحماء ))
..ساروا في عراك الحياة ...وعاشوا في ظروفها المريرة موقنين بأن من سّره زمنٌ ....ساءته أزمان ...
ولكن إيمانهم بالله خفّف مواجعهم وأزال كدرهم وفي يوم الخميس ...ذهب الأب إلى بئرٍ لهم فنظر إلى البئر ولم يعلم بأنها آخر نظره له في الحياة...
.فسقط في البئر ووافاه أجله "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون "
مات الأب الحنون...مات القلب الحنون ... مات وخلف أبناءه أيتاماً ...خلفهم يتجرعون مرارة اليتم ..
يصارعون الدنيا زمناً وتصرعهم أزماناً ...لم تعد الضحكة إلى محياهم وهاجرت السعادة قلوبهم ...
فقد ذلك البيت الصغير من بناه ... وحنّ إليه ولو كان يصرخ لاهتزت لصراخه الأرجاء...
وفي هذا البيت عاش ذلك اليتيم ... ولم يتجاوز التاسعة عشر من عمره ... قد أظلمت الدنيا في عينيه ...
بعد أن فقد أغلى ما يملك ... بدأت المسؤولية تلوح أمام ناظريه ...ينظر إلى أمه ....
فيرى امرأة ضعيفة لا حول لها ولا قوة ...قد كسر جناحها ...وتوغل الحزن في قلبها ... فيحترق قلبه ..ويتقطع ألماً...
ينظر إلى أخوته ...
فإذا بهم أطفالاً يلعبون ويمرحون... وهم يظنون أن أباهم سيعود...
فتنحدر الدموع على خديه...وأخذ يناجي الله ولمعة الدموع على وجنتيه فقد ألهبته خديه الدموع ...
وأحرق قلبه الألم ... وأتعب عقله التفكير ... رفع يديه إلى السماء ...منكسر القلب ...دامع العين ...
يرجو من ربه أن يكون عوناً فهو خير معين ... وهو على هذا الحال ...وإذا بكف أنعم من الحرير ...
يمسح دمعاته نظر فإذا هو بالقلب الرحيم إنها أمه فقالت له بصوت تخنقه العبرة
:يا بني أن الله معنا ومالنا سواه وأخذت تربت على أكتافه وتقول:"تصبر بني فالرجال لا تبكي وأنت الآن رجل البيت"
وأخذت هذه العبارة مأخذها في نفس ذلك اليتيم فقد أحيت هذه الكلمات الأمل في قلبه ..
.وأنارت له الدروب المظلمة ...والمسالك الموحشة وبعد هذه اللحظة ...
عزم مع نفسه عزماً صادقاً بأن يكون ذلك الأب الرحيم لإخوته ... وأكمل تعليمه في المعهد الفني ... حتى يصبح مهندساً ... شاب في مقتبل عمره ...
أتته الدنيا رغماً عن أنفه ... فأجبرته ظروفها أن يتعلم في الصباح ويعمل في الليل حتى يحقق حلم أمه ...
ويرسم البسمة على وجوه أخوته ...فكان يعطيهم ما يتمنونه ... يسمع شكواهم ...ويمسح دمعاتهم
... يلعب معهم ويمازحهم ... فإذا أقبل الليل وتنزل الرحمن
... ترسل أمه الدعوات لرب الأرض والسماوات بأن يكون عوناً لابنها... وأن يرزقه من حيث لا يحتسب ... متيقنة بأن الله لن يترك ضعيفاً بلا قوة ...
ومضت السنون وذلك اليتيم يصارع الزمن أكمل تعليمه وأخذ يعمل مهندساً ورزقه الله المال الحلال
"و الله لا يضيع أجر المحسنين"
كان يسير ذلك اليتيم كالجبل لا يأبه بالريح ...ووضع أبيه نصب عينيه فهو قدوته في قوته وشدة صبره وتحمله ... فكان كلما يأس قرأ " إن مع العسر يسراً" فتشعل هذه الآية الأمل في قلبه
.. وتقدمت السنون وذلك اليتيم مثالاً للشاب المقدام الصبور وكبر إخوته وتعلموا
... وفي يومٍ من الأيام بعد أن عاد ذلك اليتيم من عمله دخل البيت وقد أنهكه طول العمل فنظر إلى أخيه الذي يصغره بخمس سنوات
فرأى في عينيه الإصرار والعزم على أن يواجه الحياة ويخفف عن أخيه مشقة المسؤولية...وكبر أخيه وصار عوناً له... وبعد أن استقرت حياة ذلك اليتيم ... قرر أن يتزوج بعد عناء الطريق ...
لعله أن يجد تلك المرأة الصالحة التي تخفف عنه مصاعب الحياة فتقدم لخطبة إحدى الفتيات بالقرية المجاورة وتم الزواج وعاشا حياة سعيدة ...
ورغم ارتباط ذلك اليتيم بزوجته إلا أنه لم ينسى أمه وإخوته وكانت زوجته تعينه على مشاق الحياة وتوصيه في أهله خيراً
...وبعد مضي أشهر من زواجه رزقه الله بمولود أعاد السعادة إلى قلبه وقلب أمه وإخوته فأنساهم أحزانهم وملأ عليه البيت بالضحكات ....
وتوالت السنون ورزقه الله بثلاث بنات وولد فكان لهم الأب الشفيق والقلب الرحيم تعب وتعب من أجلهم ولكنه إذا عاد من عناء العمل فلقي أبناءه انسوه ذلك التعب ..
وهكذا عاش ذلك الأب اليتيم مع أبناءه الخمسة أياماً جميلة أنسو ماضيه المرير ... وبعد أن كبر أبنائه وكبرت سعادته كان حلمه أن يرى أبناءه ..يحملون أسمه ...ويحققون حلمه...
ولكن الله أخذ أمانته ...نعم مات ذلك اليتيم...... مات ذلك الجسد المتعب ... ماتت تلك الأعين الدامعة ... مات ذلك القلب الطاهر ...ماتت تلك الأيدي المتشققة.. مات القلب الرحيم مات الصبور
......مات المقدام.......مات المعطاء....
.مـــــــــــات وخلف أبناءه أيتاماً ......بعد أن عاش معهم أجمل أيام عمره ......مات ولكن لم يمت في قلوب أبناءه وزوجته وأمه وإخوته ......مات ولم يمت ذكره في عشيرته
.....مات بعد أن علم أبناءه
""أن الحياة هموم ولـكــن تحت ظل الأمل""
*&*&*وهـــــكــــذا تكــــررت المـــــأســــاة*&*&*